معا لغد افضل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
معا لغد افضل

3 مشترك

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (1)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:04

    يسعدني ويشرفني ان اعرض لكم هذا الموضوع وهو عرض لكتاب
    الشيخ يوسف القرضاوي بعنوان «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»
    قام بالعرض ماهر حسن


    من المتوقع أن يثير هذا الكتاب جدلا واسعا بين التيارات الدينية على مختلف أطيافها وتوجهاتها، حول فكرة الجهاد وفلسفته، لأنه يتقاطع مع القراءات المعاصرة للجهاد، خاصة تلك التى يتبناها تيار الإسلام السياسى، وعلى غرار كتابه الأسبق «فقه الزكاة» جاء هذا الكتاب للدكتور يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، بعنوان «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»، والذى نشرته مكتبة وهبة فى جزأين،
    والكتاب يقدم مراجعات لفلسفة الجهاد ومفاهيمه، التى ظلت ملتبسة أو تم تطويعها على نحو متعسف وربطها عنوة بما هو سياسى على يد الجماعات الإسلامية التى كثيرا ما رفضت أفكار القرضاوى ثم عادت فى مراجعاتها لتتفق معها، وعلى حد تعبير القرضاوى نفسه، فإن هذا الأمر كان من الأسباب الرئيسية التى دفعته للعكوف ٧ سنوات لإنجاز الكتاب.

    الكتاب فى عشرة أبواب، يعرض لحقيقة الجهاد ومفهومه، وأنواعه ومراتبه وأهدافه ومنزلته ويستهله القرضاوى، بعنوان «من دستور الأمة الإلهى» (القرآن الكريم) باثنتى عشرة آية قرآنية مما ورد فيها ذكر الجهاد أو توصيف له، ومن هذه الآيات» «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:١٩٠،١٩١ ] ومن السورة ذاتها وفى الآية رقم ٢٥٦ «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِِّ»

    ومن ( سورة النساء الآية رقم ٧٥) «وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» وهى الآية التى جعلت إنقاذ المستضعفين من براثن الجبارين من أهداف القتال فى الإسلام، ومن السورة ذاتها (الآية رقم ٩٠) قال تعالى:»فـَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً» ويقول تعالى فى الآية الستين من سورة الأنفال «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» ومن سورة الأنفال أيضا الآية الواحدة والستين «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»

    وفى الآية الرابعة من سورة التوبة قال عز وجل: «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» وفى الآية السابعة من السورة ذاتها قال تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» وفى الآية السادسة والثلاثين قال تعالى:»وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» أى تجمعوا على قتالهم، كما يتجمعون على قتالكم. فهو معاملة بالمثل.

    وتحت عنوان «من مشكاة النبوة»، أورد القرضاوى عددا من الأحاديث الشريفة التى تعرضت لفكرة الجهاد ومنهجها وفلسفتها ومن هذه الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنَّة تحت ظلال السيوف».

    متفق عليه عن عبدالله بن أبى أوفى، ومن قوله صلى الله عليه وسلم «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» رواه أبو داود عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأة قتيلا فى غزوة، فقال: «ما كانت هذه لتقاتل». فبعث رجلاً فقال: «قل لخالد: لا يقتلن امرأة ولا عسيفا». رواه أحمد وأبو داود عن رباح بن الربيع وعنه أنه قال «اغزوا باسم الله، وفى سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، لا تغلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تمثلِّوا، ولا تقتلوا وليدًا» رواه مسلم عن بريدة.

    وعن مسلم عن جابر بن سمرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة»، رواه مسلم عن جابر بن سمرة وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليُذكَر، والرجل يقاتل ليُرى مكانُه، أيهم فى سبيل الله؟ فقال: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هى العليا، فهو فى سبيل الله». متفق عليه عن أبى موسى. وقال جَرير: قال لى النبى صلى الله عليه وسلم فى حَجَّة الوداع: استنصت لى الناس، فقال: «لا ترجعوا بعدى كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض»، متفق عليه عن جَرير بن عبدالله البَجَل.

    ووفق ما ورد فى موطأ الإمام مالك ومن هَدْى الراشدين أورد القرضاوى دستور الجهاد كما حدده أبوبكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب، فعن يحيى بن سعيد: أن أبابكر رضى الله عنه بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشى مع يزيد بن أبى سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبى بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبوبكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله، ثم قال له: إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له (يعنى الرهبان).. وإنى موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرا هرمًا، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تَغلل، ولا تجبُن.

    وعن عبدالله بن عامر: أنه قدم على أبى بكر الصديق رضى الله عنه برأس البطريق، فأنكر ذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، إنهم يفعلون ذلك بنا! قال: فاستنانٌ بفارس والروم؟ لا يحمل إلىَّ رأس! فإنه يكفى الكتاب والخبر، رواه سعيد بن منصور فى سننه، وابن أبى شيبة فى مصنفه، والنسائى فى الكبرى. وعن زيد بن أبى وهب قال: كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه: لا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، واتقوا الله فى الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. رواه سعيد بن منصور، وابن أبى شيبة.

    وعن الأطر التى تحدد دواعى الجهاد وقياساته الفقهية فإننا نقف عليها بجلاء فى مستهل هذا الكتاب ومنها ما قاله ابن رشد الجد فى «المقدمات والممهدات» حيث قال: «إذا حُميت أطراف البلاد، وسُدَّت الثغور: سقط فرض الجهاد عن جماعة المسلمين، وبقى نافلة، إلا أن ينزل العدو ببعض بلاد المسلمين، فيجب على الجميع إعانتهم، بطاعة الإمام فى النفير إليهم» وفى فتاوى ابن الصلاح و «فى السياسة الشرعية» لابن تيمية: «إن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم، لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق، ولا خلقهم ليُقتلوا، وإنما أُبيح قتلهم لعارض ضرر وُجد منهم، إلا أن ذلك ليس جزاء لهم على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء فى الآخرة» ولدى ابن تيمية،

    أيضا وفى السياسة الشرعية. مجموع الفتاوى «إن الله تعالى أباح من قتل النفوس: ما يُحتاج إليه فى صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:٢١٧]، أى أن القتل وإن كان فيه شرٌّ وفساد، ففى فتنة الكفار (اضطهادهم للمؤمنين) من الشرِّ والفساد ما هو أكبر منه. فمَن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرَّة كفره إلا على نفسه» وفى قاعدة فى قتال الكفار (صـ١٢١) لدى ابن تيمية أيضا: «قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ} [البقرة:٢٥٦]، هذا نصٌّ عامٌّ: أنا لا نُكره أحدًا على الدين، فلو كان الكافر يُقتل حتى يُسلم، لكان هذا أعظم الإكراه على الدين».

    وفى كتابه «فى هداية الحيارى» يستشهد ابن القيم بالمواقف النبوية فى الشأن الجهادى فيقول: «مَن تأمَّل سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، تبيَّن له : أنه لم يُكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل مَن قاتله. وأما مَن هادنه، فلم يقاتله ما دام مقيما على هدنته، لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفى لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:٧]، ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرَّهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدأوه بالقتال قاتلهم.. وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين، لم يبدأهم بقتال، حتى بدأوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم فى ديارهم، وقبل ذلك كانوا هم يغزونه».

    وفى وجوب الجهاد نجد الخطيب الشربينى، فى «مغنى المحتاج فى شرح المنهاج» يقول إنه وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية، وما سواها من الشهادة. وأما قتل الكفار فليس بمقصود، حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل (أى بالحجَّة والإقناع) بغير جهاد: كان أولى من الجهاد» كانت هذه منطلقات أولية حددها الدكتور القرضاوى وهى منطلقات عززتها شروح تمهيدية فى مقدمة كتابه العمدة هذا فيذكر المواقف النظرية من الجهاد قائلا: «لقد كتب كثيرون عن الجهاد، وقُدِّمت فيه عدة أُطروحات للدراسات العليا فى عدد من الجامعات الإسلامية والمدنية: وكتب كثير من الباحثين فى الموضوع، وعُنيت به جماعات وحركات إسلامية: علما وعملا ودعوة وتطبيقا، وبعضهم سمَّى نفسه بهذا الاسم مباشرة مثل: جماعات (الجهاد) فى أكثر من بلد عربى وإسلامى، ولكن مشكلتنا فى هذه القضايا الكبرى: أن الحقيقة تضيع فيها بين طرفى الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، أو (الطغيان والإخسار) وفق تعبير القرآن، الذى قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ـ لقد رأينا فى الجهاد ثلاثة مواقف، أو ثلاث فئات.

    الفئة الأولى تريد إماتة الجهاد، وتريد أن تُهيل عليه التراب، وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همِّها ومبلغ علمها: أن تربِّى الأمة -كما تقول- على القِيَم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو (الجهاد الأكبر): جهاد النفس والشيطان.

    ومن الغريب أن يتفق فى هذا الاتجاه: دعاةُ التصوف السلبى الموروث من عهود التراجع والتخلف، (على خلاف دعاة التصوف السنى الإيجابى الذين ساهموا فى الجهاد بنصيب وافر، مثل: الأمير عبدالقادر فى الجزائر، وعمر المختار فى ليبيا والسنوسيين...)، ودعاةُ العلمانية الدخيلة، المتغرِّبون، يشاركهم عملاء الاستعمار الغربى والشرقى، من اليمين واليسار، الذين يريدون أن يجرِّدوا الأمة من أسلحتها، لتبقى عارية مكشوفة أمام أعدائها، فهاجموا فكرة الجهاد، وحركة الجهاد، قديما وحديثا، واتهموا الجهاد الإسلامى بالعدوانية ويرحب بهؤلاء وأولئك جميعا: الاستعمار قديمه وحديثه، ويغذِّيهم بما يقوِّى عضدهم، ويمدُّهم بكلِّ ما يعينهم على تحقيق أهدافهم،

    ولقد صنع الاستعمار البريطانى نِحلة فى الهند: (القاديانية) كان أشهر ما دعت إليه هو (إلغاء الجهاد)، لإخلاء الطريق للاستعمار، ليفرض سلطانه على المسلمين دون مقاومة ومن المؤسف حقا: أن يوجد من علماء الشرع ودعاته: مَن يريد أن يَدين كلَّ أنواع الجهاد المعاصر: صالحها وطالحها، مستقيمها ومنحرفها، معتدلها ومتجاوزها، فى حين يبرِّر لطواغيت الحكام كل ما تقترفه أيديهم من تعطيل للشريعة، وإفساد للأخلاق، وارتكاب للمظالم، فكم من دماء سُفكت، وكم من أعراض هُتكت، وكم من حرمات انتُهكت، وكم من حقوق ضُيعت،

    وكم من كرامات أُهدرت، وكم من ألوف اختُطفوا من منازلهم، ثم ذُهب بهم إلى حيث لا يُدرَى أهم أحياء أم أموات؟ وكم من أناس قُتلوا فى سجونهم بأيدى سجَّانيهم، خُفية أو جهرة! وكم... وكم... وهذا كلُّه حلال مبرَّر. أما المؤثَّم والمجرَّم والمحرَّم، فهو ما تقوم به الشعوب المقهورة، والجماعات المهضومة من تنفيس دفاعى، قد يتجاوز بعضهم فيه، ولكن ربما كان لهم من العذر ما ليس لظالميهم من المعادين لدينهم، الماكرين بمِلتهم، من الذين طغَوا فى البلاد، فأكثروا فيها الفساد.

    أما الفئة الثانية فهى الفئة التى تعلن الحرب على العالم كله وفى مقابل هذه الفئة: فئة فهمت الجهاد على أنه (قتال العالم كله): مَن حارب المسلمين أو وقف فى سبيل دعوتهم، أو فتن المسلمين فى دينهم... ومَن ألقى إلى المسلمين السلم، ومدَّ يد المسالمة والمصالحة للمسلمين، فلم يَشهَر فى وجوههم سيفا، ولم يظاهر عليهم عدوا فكل الكفار عند هذه الفئة سواء فى وجوب مقاتلتهم إذا كان المسلمون قادرين، فالكفر وحده سببٌ كافٍ لقتال غير المسلمين وكل ما ورد من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، تدعو إلى مسالمة مَن سالمنا أو البر والإقساط إلى مَن لم يقاتلنا فى الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، أو يظاهر على إخراجنا، ونحو ذلك: فكلها كانت آيات مرحلية، انتهى مفعولها،

    وأمست موجودة فى المصحف خطًّا، معدومة معنًى، فقد نسختها كلها -وهى نحو مائة وأربعين آية أو مئتا آية أو أكثر- آيةٌ واحدةٌ سمَّوها (آية السيف) والعجب كل العجب أن آية السيف هذه قد اختلفوا فى تعيينها هؤلاء لا يرتضون ميثاق الأمم المتحدة، لأنه يمنع الأمة من الجهاد، ويفرض عليها احترام الحدود الإقليمية للدول ذات السيادة، ويوجب حلَّ النزاعات الإقليمية بالوسائل السِّلمية كما يرفض هؤلاء الاتفاقية الدولية للتعامل مع الأسرى، إذ يرون أن لهم حق قتل الأسرى بلا قيد ولا شرط، وهذه الاتفاقيات تمنع قتل الأسرى، كما يرفضون اتفاق العالم كله على (إلغاء الرق)، ويرون فى هذا تحريم ما أحلَّ الله، وإبطال ما شرع الله.


    عدل سابقا من قبل عبد العليم في الثلاثاء 30 يونيو - 21:06 عدل 1 مرات
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:05

    ويرى هؤلاء: أن الإسلام إنما انتشر فى العالم بالسيف والجهاد، وأن الذين يزعمون أن الإسلام انتشر بالدعوة والحُجَّة والإقناع وأخلاق المسلمين، لا بالسيف والسنان، مثل: المؤرخ البريطانى (توماس أرنولد) فى كتابه (الدعوة إلى الإسلام)، هؤلاء مضلِّلون، يريدون أن يبعدوا المسلمين عن الجهاد، والذين يمدحون مثل هذا المستشرق من المسلمين، إنما هم جهلة بحقيقة الإسلام، وبضاعتهم مُزجاة فى علومه، وهم تلاميذ للاستشراق الخبيث وقد كان لهذا الفكر آثار سيئة، فى أنفس مَن آمن به من الشباب المخلصين فى نيتهم، فحملوا السلاح على قومهم وأهليهم، وقاتلوهم وقتلوا منهم، فقد أدخلوهم فى زُمرة الكفار الذين يجب قتالهم، لأنهم ارتدُّوا عن الإسلام، وباتوا يوزعون تهمة الكفر على كل مَن يخالفهم من الناس، حتى من علماء الدين!

    ولم يبالوا بمَن قتلوا من البُرآء فى سبيل ذلك، حتى ألصقوا بالإسلام تهمة العنف وزاد على ذلك بعضهم، فقتلوا مَن ليس لهم بهم عَلاقة، ولا لهم معهم مشكلة، مثل: السياح وركاب الطائرات والرهائن وأمثالهم، ليرهبوا غيرهم بقتلهم، أو باختطافهم واحتجازهم، وبذلك ألصقوا بالإسلام تهمة أخرى -إلى جانب تهمة العنف- وهى تهمة (الإرهاب).

    أما الفئة الثالثة فتلك التى وصفها القرضاوى بفئة التوسط والاعتدال أو (الأمة الوسط)، التى هداها الله إلى الموقف الوسط، وأتاها العلم والحكمة، ورزقها البصيرة فى فقه الشرع، وفقه الواقع، فلم تقع فى تفريط الفئة الأولى التى تريد للأمة أن يبقى حقها بلا قوة، ومصحفها بلا سيف، وأن تبقى دارها بلا حُرَّاس، وحرماتها بلا حُماة.

    كما لم تقع فى إفراط الفئة الثانية وغلوِّها، التى تريد أن تقاتل المسالمين، وتشنَّ الغارة على الناس أجمعين، وتعلن الحرب على الأحمر والأسود، والشرق والغرب، بدعوى أنها تسوق الناس إلى الله، وتقودهم بالسلاسل إلى الجنة، وتأخذ بأيديهم قسرا إلى الصراط المستقيم، وتزيل الحواجز المادية التى تضعها السلطات الطاغية أمامهم، فلا يُتاح لهم تبليغهم كلمة الله، ودعوة رسوله، ليسمعوها عالية صريحة، خالية من كل شَوب وهذا كان صحيحا فى الزمن الماضى، حين كان كسرى وقيصر وأمثالهم من الطواغيت، يقفون عقبة فى سبيل شعوبهم وأممهم، فلا يمكن إيصال الدعوة إليهم إلا بالانتصار عليهم، وإزاحتهم بالقوة من طريق الدعوة، وهذا ما فعله الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان أما اليوم فلم نعُد فى حاجة إلى ذلك، وقد أتاحت لنا وسائل العصر أن نبلِّغ العالم كله دعوتنا، وأن نُسمعهم كلمتنا، دون أن يستطيع حاكم منعنا من ذلك.

    فعندنا القنوات الفضائية التى تملأ الآفاق، والإذاعات الموجَّهة التى تنقل موجاتها إلى أقصى العالم، وشبكة الإنترنت التى تدخل كل بيت دون إذن من أحد، والرسائل والنشرات المكتوبة بلغات العالم، كل هذه الأدوات والآليات هى أسلحتنا القوية والمؤثرة فى جهاد العصر، وهى تحتاج إلى جيوش جرَّارة من الدعاة والمعلِّمين والإعلاميين المدرَبين الأكفاء الأقوياء الأمناء القادرين على مخاطبة العالم وأُممه بلغاته المختلفة، وبلسان عصره، وبأساليب عصره، ليبيِّنوا لهم، ويُفهموهم ويؤثروا فى عقولهم وعواطفهم، وهذا - للأسف الشديد - ما لا نملك عشر معشاره، بل ولا واحدا على الألف من المطلوب فى هذا الميدان الخطير

    ويذكرنا القرضاوى بما قاله يوم افتتاح موقع «إسلام أون لاين» واصفا هذا الموقع العالمى الذى يصل الدين الصحيح إلى العالم من خلاله حيث قال: «إن هذا هو جهاد العصر، فمَن كانت له نية فى الانضمام إلى ركب المجاهدين، أو رغبة فى نيل فضل الجهاد فى سبيل الله، بالنفس أو بالمال، أو بالجهد، فهذا هو جهاد اليوم، وهو جهاد كبير، وجهاد طويل» ويبدو أن سخونة هذا الكتاب تتواتر تصاعديا فيحقق القرضاوى وقفات خاطفة ومتأملة مع نماذج جهادية من جماعات لاتجاهات إلى تيارات جمعت بين القدم والحداثة فيذكر فيما يتعلق بجماعة الجهاد، (التى حسبها على الفئة الثانية) وعرض لرؤيته الفقهية فيما يتعلق بمراجعاتها، فقال: «إنها قاتلت وقتلت وأصابها ما أصابها من أحكام بالإعدام أو السجن ثم طفقت تراجع نفسها وتنقد ذاتها وتستمع إلى غيرها وتعود إلى خط الاعتدال والوسط بعيدا عن الوكس والشطط وتتراجع عن كثير مما كانت تؤمن به وتصر عليه،

    وهو ما قامت به الجماعة الإسلامية فى مصر وهى شقيقة جماعة الجهاد، فقد أصدرت عدة كتب سمتها (سلسلة تصحيح المفاهيم) أعلنت فيها تخليها عن كثير من مفاهيمها القديمة فى شجاعة أدبية تحسد عليها وقد صدر منها اثنا عشر كتابا ومما فاجأنى أننى وجدتهم ينقلون من كتبى صفحات كاملة متتالية، وقد كانت من قبل المحرمات التى يرفضون قراءتها ويحذرون منها أتباعهم، وهذا التغيير إنما يدل على أن العقول المغلقة قد عرفت التفتح والنفوس المتعصبة قد عرفت التسامح وأن الفرد المسلم لم يعد أسيرا لرأى واحد ولشيخ واحد وهذا تطور محمود ولهذه الاعتبارات وجدت أنه من الواجب على أن أنهض للكتابة فى هذا الموضوع وكم خطر فى بالى منذ أنجزت كتابى فقه الزكاة أن أكتب شيئا مشابها فى فقه الجهاد.. وعن الدوافع الضاغطة التى حملت القرضاوى على إنجاز هذا الكتاب يقول:

    «أوجب الإسراع فى هذا البحث أمران أولهما ما يتعرض له الإسلام وأمته من غارة شعواء تريد اقتلاعه من جذوره وأعلنت عليه حربا لا هوادة فيها شنتها عليه قوى الصليبية الماكرة والصهيونية الفاجرة والوثنية الكافرة تقودها أعتى قوة فى الأرض اليوم متسترة بدعوى محاربة الإرهاب وترى فى السفاحين الإسرائيليين رجال سلام فيما ترى المقاومة الفلسطينية المشروعة عملا إرهابيا.

    أما الأمر الثانى فهو غلو بعض الشباب المتحمسين فى قضية الجهاد من الذين انخرطوا فى المقاومة الأفغانية الباسلة للغزو السوفيتى الشيوعى فى حرب شريفة وعادلة وكانت أمريكا تشجعهم وتؤيدهم فلما انتصر الأفغان بدأت أمريكا والأنظمة العربية تقلب لهؤلاء الشباب ظهر المجن وأصبح مجاهدو الأمس مجرمى اليوم، مما حدا بهؤلاء الشباب بأن يحاربوا العنف بالعنف ويتخذوا من الغلو طريقا ويؤمنوا بالعنف كما آمن به الخوارج وقد تكون نيات هؤلاء الشباب سليمة فكلهم متدينون ولكن الغلو إذا دخل أى شىء أفسده فنشأ تنظيم القاعدة والسلفية الجهادية كما نشأ قبلهما جماعات الجهاد وأصبح لها فكر تروجه وفكر تسوق له وأصبح لهم تلاميذ ومعجبون يريدون إعلان الحرب على العالمين فكان لابد من الإسراع فى الرد عليهم وتفنيد شبهاتهم.

    يقول القرضاوى: «لقد تحدث الكثيرون عن الجهاد فأساءوا فهمه، ولم يعرفوا حقيقته وأبعاده ولا أهدافه ومراميه، وضاعت الحقيقة فى زحام القيل والقال وأساء الكثيرون إلى الأمة، وإلى الإسلام، والمشكلة فى الكثير من قضايانا العلمية، أن بعضا من علمائنا ودعاتنا يتبنون أحد الآراء فى المسألة ويعتبرونه هو الإسلام ويجعلون دفاعهم عنه دفاعا عن الإسلام ذاته ويعدون المختلفين معهم كأنهم خصوم الإسلام فيما أن ما يعتنقونه من أفكار وقناعات ماهى إلا وجهات نظر لا يجوز أن يتحول البحث فيها إلى معركة يكون القتال فيها مبررا وهذا ما رأيته فى تناول المفكرين الكبيرين أبو الأعلى المودودى وسيد قطب لقضية الجهاد وقد تحمسا للقضية تحمس المحامين الكبار للدفاع فى القضايا الشهيرة.

    لقد اعتمد منهج القرضاوى فى هذا الكتاب على جملة من الركائز وهى القرآن والسنة الصحيحة والفقه والمقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان والقوانين فضلا عن ربط هذا كله بالواقع المعاصر والتزامه بمنهج الوسطية والاعتدال، وحدد القرضاوى المستفيدين من هذه الدراسة وهم الشرعيون والحقوقيون والإسلاميون (الجماعات الإسلامية المختلفة التى تعمل لنصرة الأمة وواجبات ودستور جيش الجهاد الإسلامى - من جماعات الإسلام السياسى) والمؤرخون الإسلاميون والمفكرون والمستشرقون والحواريون (المهتمون بحوار الأديان والثقافات) والسياسيون وصناع القرار فى العالم والعسكريون (لكى يكونوا رأيا صحيحا عن فكرة الجهاد) وجمهور المثقفين (الذين يمثلون القاعدة العريضة من الشعوب والأمم).
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (2)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:09

    عرض ماهر حسن ٣٠/ ٦/ ٢٠٠٩
    فى الجزء الأول من كتابه «فقه الجهاد» حدد الدكتور يوسف القرضاوى ثلاث رؤى لفكر الجهاد، بين فئة ترفضه وأخرى تغالى فيه وثالثة تتبنى رؤية وسطية معتدلة..

    ويواصل فى الجزء نفسه تحديد الأطراف التى يتوجه إليها، ويرى أنها بحاجة إلى تلك الدراسة بغرض المراجعة، ويقول إن الإنسان الحر هو الذى يسلم من التعصب ويراجع أفكاره بمنأى عن الانغلاق تأسيًا بما ورد فى رسالة عمر بن الخطاب إلى أبى موسى، إذ قال له: «لا يمنعنّك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شىء، ومراجعة الحق خير من التمادى فى الباطل» وكذلك تأسيًا بالإمام الشافعى، الذى غير مذهبه بعد أن استقر فى مصر فى مسائل عدة،

    ولهذا يعرف عند الشافعية: قال فى القديم وقال فى الجديد، وعلى ذلك فإن من الفئات التى قصدها القرضاوى بالإفادة (الشرعيين) من علماء الشرع والفقه الذين كوّنوا فى رؤوسهم مفاهيم رسخت وثقافة تورثت أن الجهاد فرض كفاية على الأمة، وأن من هذا الفرض غزو بلاد الكفار كل سنة مرة على الأقل، وإن لم يظهر منهم شىء ضدنا بل مدوا إلينا يد المصالحة والمسالمة،

    وإن كان هذا الرأى يعارض آيات كثيرة صريحة فى القرآن، وقد بطل مفعول هذه الآيات فى نظرهم لأنها منسوخة، وهناك كثير مما كتبه الفقهاء إنما يعبر عن بيئته وزمنه ولا يسنده قرآن ولا سنة مثل عدم بناء كنائس لأهل الذمة أو ترميمها أو تمييزهم بملابس خاصة وهذا كله لا يلزم الفقيه المعاصر، وإنما يلزمه محكمات القرآن والسنة وما أجمعت عليه الأمة بيقين، إجماعا لا يستند إلى مجرد مصلحة ظرفية يتغير الحكم بتغيرها..

    ويؤكد القرضاوى أهمية دراسته هذه بقوله: «إننا بهذه الدراسة نقدم لهؤلاء الشرعيين فقها جديدا أصيلا يستمد أصالته من كتاب الله ومن صحيح سنة رسول الله كما يستمد جدته من التفاعل مع هذا العصر وقراءة الواقع المعيش وما فى عالمنا من إنجازات هائلة ومن انحرافات هائلة أيضا والفقه الحقيقى والاجتهاد الحقيقى إنما هو تفاعل بين النص الشرعى والواقعة المعروضة وعقل الفقيه الذى يتأثر بزمانه ومكانه وعالمه».

    أما عن الفريق الثانى الذى يحتاج هذه الدراسة عن فقه الجهاد فيقول القرضاوى: «وكذلك يحتاج هذه الدراسة علماء الحقوق والقانون الدولى الذى كوّن كثير منهم فكرته عن الإسلام وشريعته، وخصوصا بشأن الجهاد والحرب والسلم، اقتبسوها مما هو شائع فى الكتب ومما هو دائر على الألسنة والأقلام وحق لهم ما دام علماء الشريعة أنفسهم مشوشين من هذه الناحية فكيف بغيرهم».

    ويحدد الفريق الثالث الذى يستهدف النفع له من هذه الدراسة وهو (الإسلاميون) ويقصد بهم جماعات الإسلام السياسى مثل شباب الصحوة الإسلامية فى العالم الإسلامى وخارجه، وخصوصا من عرفوا باسم جماعات العنف التى تنسب نفسها أو ينسبها الناس للإسلام، والتى تتخذ العنف والقوة فقها خاصا لها، يستشهدون بالقرآن والحديث فيما يؤكد فقط وجهة نظرهم ويعرضون عن غيرها من النصوص التى يعتبرونها منسوخة أو مؤولة كما يستدلون بأقوال الفقهاء التى تدعم وجهة نظرهم».

    ويعدد القرضاوى مجموعة من هذه الجماعات مثل جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية وتنظيم القاعدة وغيرهم ممن على شاكلتهم وأنه- أى القرضاوى- يأمل أن تغير هذه الجماعات من أفكارها وتعدل من آرائها، حتى وإن كانت متهمة بالانغلاق على نفسها والتعصب لآرائها وعدم نظرها فى فقه من يخالفها،

    ويرى القرضاوى أن الإنسان هو الإنسان مهما يتعصب وينغلق على نفسه، فلا بد أن يأتى وقت يراجع فيه نفسه ويمتحن أفكاره، خصوصا إذا خالفه الكثيرون من أهل العلم وهذا ما حدث للإخوة فى (الجماعة الإسلامية فى مصر)، حيث أصدروا سلسلة من الكتب تعلن تراجعهم بشجاعة عن أفكارهم القديمة،

    وأن إخوانهم من جماعة الجهاد فعلوا الشىء نفسه وأيضا كثير من الإخوة فى الجزائر من الجماعات المسلحة التى تركت أماكنها فى الجبل ونزلت إلى الأرض وانضموا إلى الشعب بناء على قناعات جديدة، ومنهم من أعلن أن مراجعته لنفسه جاءت تأثرا بآراء القرضاوى، وفى هذا يقول القرضاوى: وقد ذكرت أن أبناء الجماعة الإسلامية طفقوا يقرأون كتبى وقد كانت من المحرمات عليهم، وبدأوا ينقلون منها صفحات كاملة فى دراساتهم الجديدة ولهذا أحمل أملا كبيرا فى شباب الجماعات الإسلامية المتشددة أن يتراجعوا عن تصلبهم، ويقرأوا الكتاب بتفتح وإنصاف.

    وأما الفريق الرابع الذى أراد القرضاوى أن يتوجه إليه بدراسته هذه فهو فريق المؤرخين ولا سيما المعنيين بالسيرة النبوية والتاريخ الإسلامى، الذين قرأوا غزوات الرسول قراءة غير صحيحة ولا منصفة واعتبروا الرسول «عليه الصلاة والسلام» هو الذى ابتدأ المشركين بالغزو والقتال كما فى غزوة بدر وفتح مكة وغزوة حنين،

    وابتدأ غزو اليهود فى مواقعهم وحصونهم كما فى بنى قينقاع وبنى النضير وهو الذى بادر بغزو الروم كما فى غزوة تبوك كما اعتبروا فتوحات الصحابة والراشدين ومن بعدهم إنما كانت ابتداء من المسلمين لجيران مسالمين لهم من رعايا بلاد فارس والروم ولهذا شاع عندهم: أن الإسلام لم ينتشر فى العالم إلا بالسيف والقوة ولم ينتشر بالدعوة ولا بالإقناع ولا بسلوك المسلمين فهؤلاء فى حاجة ماسة إلى أن يصححوا مفاهيمهم هذه التى بنوها على قراءة خاطئة وقاصرة للسيرة والتاريخ».

    أما المهتمون بحوار الحضارات والثقافات، الذين سماهم القرضاوى بـ (الحواريين) فإنه يقدم لهم هذا الكتاب باعتباره لبنة مهمة فى بنيان هذا الحوار الذى يقوى حينا ويضعف حينا ويتوقف حينا بسبب قصور الرؤية من بعض الأطراف لبعض، فضلا عن غلبة العصبية على العقل وانتصار الفكر الموروث على الفكر الحر ولا يمكن أن يتحاور الناس إذا كان بعضهم يجهل بعضا،

    وخصوصا بالنسبة للمسلمين الذين يتهمون بأنهم دعاة عنف وأنهم نشروا دينهم بالسيف وأن موقفهم دائما رفض الآخر، «وقد رأينا البابا السادس عشر يتبنى ذلك فى محاضرة له فى ألمانيا وقد رددت عليه فى كتاب (البابا والإسلام) فلعل هذه الدراسة تفتح لهؤلاء صفحة جديدة تمكنهم من رؤية جديدة تتغير فيها نظرتهم للإسلام وأمته وحضارته».

    ومن الفرق الأخرى التى قصدها القرضاوى بالفائدة فريق المستشرقين المهتمين بالدراسات الإسلامية أو للغرب عامة، سواء كان أساس اهتمامهم معرفيا أم سياسيا لخدمة أهداف معينة لدولة ما أو لخدمة الكنيسة وفكرة التنصير التى تأسست على يد طائفة من البروتستانت فى (كلورادو) عام ١٩٧٨ فى صورة مؤتمر يهدف إلى تنصير المسلمين فى العالم، وقد صوروا الإسلام بأنه خطر على العالم وأن فريضة (الجهاد) فيه تلزم المسلمين أن يحاربوا العالم كله، وقد أثبتت هذه الدراسة بطلان هذا الزعم من أساسه، وأن الإسلام أعظم دين يدعو إلى السلام ويرغب فى السلام ويربى أبناءه على حب السلام وإفشاء السلام.

    أما السياسيون الذين قصدهم القرضاوى فى دراسته بغرض إفادتهم فهم رجال السياسة وصناع القرار فى العالم، الذين يتخذون قرارات تتعلق بمصائر أمم كاملة وأرواح بشر ومقدرات شعوب ومقدسات أديان بناء على تصورات فكرية لدين لم يعرفوه ولم يقرأوا كتابه، ولم يفقهوا سيرة نبيه ولم يدرسوا تاريخه ولم يحيطوا بشىء ذى بال عن عقيدته وشريعته ولواقع أمة كبرى ذات شعوب متعددة وأوضاع مختلفة، وانطلاقا من هذا المعنى يصف القرضاوى موقف الرئيس بوش الابن ورجال الإدارة الأمريكية فى عهده قائلا: «مما لا شك فيه أن الرئيس الأمريكى بوش (الابن) ومن معه من المحافظين الجدد من اليمين المسيحى المتصهين، حين أعلنوا حربا كونية على الإسلام وأمته تحت عنوان الحرب على الإرهاب، كان هذا القرار السياسى نتيجة لتصور خاطئ للإسلام وعن حقيقة الجهاد فيه.

    أما الفريق الأخير الذى توجه إليه القرضاوى بدراسته فكان فريق العسكريين من المسلمين وغير المسلمين فمن فهم الجهاد على غير حقيقته من قادة العسكريين الغربيين مثل رجال البنتاجون وأكثر الجنرالات فى أوروبا بل فى العالم كله للأسف الشديد فعليه أن يقرأ هذا الكتاب وعلينا أن نترجمه لهم.

    وهذا ليس مقصورا على العسكريين الأجانب، فكثير من قادتنا ومن بنى جلدتنا وممن يتكلمون بلساننا ليست لديهم فكرة سليمة عن الجهاد فى الإسلام بسبب تأثير سلطان الفكر الغربى على المثقفين والعسكريين والمدنيين فى بلادنا، ومن العسكريين الذين يحتاجون إلى هذه الدراسة العسكريون الإسلاميون ممن يقاتلون فى فلسطين أو فى لبنان أو العراق أو فى أفغانستان، وغيرها من ديار الإسلام سواء كانوا من أهل الشطط أو الاعتدال.

    وحين يوفق الله أهل الشطط منهم لفقهه فسيعرفون متى يجوز القتال ومتى لا يجوز ومع من يجوز ومع من لا يجوز، وإذا ما حاربوا ما الذى يجوز لهم فى الميدان وما الذى لا يجوز ومتى يجوز أن نقتل ومتى يجب أن نأسر وما الذى نفعله مع أسرانا وماذا نفعل عند الانتصار وعند الانكسار ولم يستثن القرضاوى أهل الاعتدال من المجاهدين الذين يقاومون المحتلين والمعتدين على أراضيهم من ضرورة الاستفادة من هذه الدراسة حتى يتقيدوا بشريعة الله فهم يقاتلون بالإسلام وللإسلام وعلى أساس من الإسلام وهو الذى يحدد لهم متى يقاتلون ومتى يتوقفون ومتى يجنحون للسلم.

    وحرص القرضاوى على أن يضع تعريفات وتوصيفات فقهية ولغوية للجهاد والقتال والحرب والعنف والإرهاب.

    ففى تفسير الجهاد يقول مصدره جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة وقد ذكرت الكلمة فى القرآن باشتقاقاتها أربعا وثلاثين مرة وقد اشتهر بالاستعمال فى القتال لنصرة الدين والدفاع عن حرمات الأمة غير أن الجهاد كما ورد فى الكتاب والسنة أوسع دائرة وأبعد مدى من القتال وقد قسمه ابن القيم فى (زاد المعاد) إلى ثلاث عشرة مرتبة فهناك جهاد النفس والشيطان والفساد والظلم والمنكر فى المجتمع وجهاد المنافقين وجهاد الدعوة والبيان وجهاد الصبر والاحتمال وجهاد الأعداء بالسلاح وقد عرض القرضاوى باستفاضة لهذه الأنواع فى الباب الثانى من الكتاب

    فى حين اختزل الكثيرون هذه الأنواع فى القتال وحده فى حين حدد القرضاوى القتال على أنه الشعبة الأخيرة من شعب الجهاد رغم اختلافه كلية حتى قياسا على اشتقاقاته اللغوية فهو من ناحية الاشتقاق مصدر قاتل يقاتل قتالا ومقاتلة وهذا من ناحية المعنى يغاير معنى الجهاد حيث معنى يقاتل غير معنى يجاهد فالقتال من القتل والجهاد من الجهد بضم الجيم وقد ذكرت كلمة القتال ومشتقاتها فى القرآن حوالى ٦٧ مرة ولا عبرة بالقتال شرعا إلا إذا كان فى سبيل الله وهو قتال المؤمنين فى سبيل الله وإذا فرغ القتال من هذه الغاية لم يعد من الجهاد فى شىء حتى إن الرسول «صلى الله عليه وسلم» قال: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟

    قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» كما قال «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقال «لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وخرج القرضاوى من التعريف الضيق للحرب إلى التعريف الأوسع حيث هناك ألوان من الحرب فهناك حرب ثقافية وإعلامية واقتصادية ونفسية وفى توصيف وتفسير القرضاوى للعنف أن معناه الشدة والغلظة ولم ترد هذه الكلمة فى القرآن لا مصدرا ولا فعلا ولا صفة ولكنها وردت مذمومة فى الأحاديث الشريفة يصحبها التحذير مثل الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف و»إذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق»

    وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير وللأسف فقد اشتهرت هذه الكلمة فى عصرنا وغدت مصطلحا شائعا وألصقت-أكثر ما ألصقت- بالمسلمين لأن فئة منهم اتخذت العنف طريقا لها للتغيير فى الداخل ولمقاومة ما تسميه العدوان والاستكبار من الخارج أما توصيف الإرهاب فيقول فيه القرضاوى إنه مصدر أرهب يرهب أى أخاف وخوف والمراد بـ (الإرهاب) فى هذا السياق إحداث حالة من الخوف والفزع عند الناس نتيجة لعمليات عسكرية فردية أو جماعية ولا ينطبق عليه المعنى القرآنى فى الآية التى تقول «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» حيث الإرهاب هنا مشروع لكن الحديث الشريف نهى عنه فى ترويع المسلمين حيث قال «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما»

    وفى الباب الأول من الكتاب يحدد الدكتور القرضاوى حقيقة الجهاد ومفهومه وحكمه شرعا هل هو فرض أم تطوع وبماذا يتحقق فرض الكفاية فى الجهاد ومتى يكون فرض عين وكيف يتحقق أداء فرض العين فى الجهاد ودور المرأة فى الجهاد.

    ويحدد ثلاثة أنواع من الجهاد هى مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس ويقول فى جهاد الدفع وجهاد الطلب: إن الجهاد بمفهومه الشرعى الشائع- وهو القتال- ينقسم إلى قسمين أساسيين: جهاد دفع، وجهاد طلب.والمقصود بـ(جهاد الدفع): مقاومة العدو إذا دخل أرض الإسلام، واحتلَّ منها مساحة ولو قليلة، أو اعتدى على أنفس المسلمين أو أموالهم وممتلكاتهم أو حرماتهم، وإن لم يدخل أرضهم، ويحتلَّها بالفعل- كما يحدث فى عصرنا من ضرب البلاد بالطائرات والصواريخ البعيدة المدى- أو اضطهد المسلمون من أجل عقيدتهم، وفتنتهم فى دينهم، يريد أن يسلبهم حقَّهم فى اختيار دينهم، وأن يُكرههم على تركه بالأذى والعذاب.

    أو يكون قد تمكَّن من بعض المستضعفين من المسلمين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فسامهم سوء العذاب، وأمسوا يستغيثون .فمقاومة مثل هذا العدو الظالم المتجبِّر، والوقوف فى وجهه بالسلاح، ومقابلة القوة بالقوة، هو ما يسمى: جهاد الدفع. مثل جهاد الرسول وأصحابه فى غزوتى أحد والخندق، وجهاد الجزائريين للاحتلال الفرنسى، وجهاد الفلسطينيين للاغتصاب الصهيونى.
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:09

    أما جهاد الطلب، فهو أن يكون العدو فى عقر داره، ولكننا نحن الذين نطلبه، ونتعقبه، بغية توسيع أرض الإسلام أو تأمينها، أو نبادئه نحن قبل أن يبادئنا هو، أو لتمكين الجماهير فى أرضه من أن تستمع إلى دعوة جديدة، فلابد من إزاحة هذه الحواجز أمام الشعوب، حتى نبلغ دعوة الله إلى الناس جميعا. أو لتحرير الشعوب التى يحكمها الطواغيت، من نير التسلط والجبروت التى يقهرها ويعاملها كالقطعان، أو لغير ذلك من الاعتبارات.

    المهم أن هؤلاء الأعداء أو الكفار مقيمون فى أرضهم، ولم يبدأونا بعدوان ظاهر، ولكن نحن الذين نتعقبهم ونطلبهم: ولهذا سُمى هذا النوع من الجهاد (جهاد الطلب) مثل ما قيل عن جهاد الصحابة ومن بعدهم فى الفتوحات الإسلامية.

    وفى حكم الجهاد ومشروعيته يقول القرضاوى أن التكاليف الإسلامية كلها منوطة بحِكَم ومصالح لا تعود على الله تعالى، لأنه غنى عن العالمين. وإنما تعود إلى خلقه، فما من تكليف إلا وراءه حكمة ومصلحة للخلق، علمها مَن علمها، وجهلها مَن جهلها.

    ولكن المقطوع به: أنه سبحانه لا يشرع شيئا عبثا ولا اعتباطا، كما لا يخلق شيئا لهوا ولا باطلا، فإن من أسمائه (الحكيم)، فهو حكيم فيما خلق، وحكيم فيما شرع.

    فما الحكمة من شرعية الجهاد فى الإسلام؟ إن الإسلام لم يكتف من المسلم أن يعبد الله فى نفسه بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح بالعشى والإبكار. ولم يكفِه منه أن يعبده تعالى ببذل جزء من ماله زكاة وطُهرة، ومواساة للضعفاء، وإسهاما فى مصالح الأمة العليا، ولم يكفِه منه أن يحجَّ بيته، ويرحل إلى الأرض المقدسة فى مكة لأداء المناسك، باذلا من نفسه وماله فى سبيل الله.

    أجل، لم يكفِه ذلك من المسلم، ما دام فى الدنيا باطل يناوئ الحق، وشر يغالب الخير، وفساد يقف أهله فى وجه الإصلاح والمصلحين. ولم يرضَ من المسلم أن يلزم بيته، ويغلق عليه بابه، ويعبد ربه فى خاصة نفسه، ويترك أبالسة الشر وطواغيت الباطل، يعيثون فى الأرض فسادا، ويفعلون بالحقائق والقيم الرفيعة ما تفعل النار بالهشيم، ويكتفى هو بالحوقلة والاسترجاع والتسبيح والتهليل!

    ولكنه فرض على المسلم عبادة يسهم بها فى مقاومة الشر، كما أسهم بعبادة الزكاة فى فعل الخير، تلك هى عبادة (الجهاد فى سبيل الله): أى بذل الجهد الممكن بالنفس والمال، والعقل واللسان فى نصرة الحق والخير. إنها ليست عبادة (شعائرية) كالصلاة والحجِّ.

    لكنها عبادة بالنيَّة والهدف من ورائها، وإن كانت فى حقيقتها من المعاملات. أُمر المسلم بهذه الفريضة كما أُمر بالصلاة والصيام والزكاة، سواء بسواء، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (المائدة:٣٥)، «

    وجعل هذا الجهاد من دلائل الإيمان الحق، وأنكر على قوم زعموا الإيمان من غير استعداد للبذل والجهاد: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ» (الحجرات:١٤)، ثم بيَّن تعالى مَن هم المؤمنون حقا فقال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (الحجرات:١٥).

    كما أنكر على المنافقين تخلُّفهم عن الجهاد بتعلُّلات وأعذار شتَّى يختلقونها، كما قال تعالى: «وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (التوبة:٨٨). إن المسلم صاحب رسالة عالمية شاملة، لا يصلح لحملها السلبيون والانعزاليون، وإنما يحملها الإيجابيون المجاهدون.

    رسالة غايتها أن يسود الحق والعدل، وينتشر الخير والهدى، ويعم الصلاح والاستقامة، وتعلو كلمة الله فى أرضه. رسالة جاءت لتقاوم الضعف فى النفوس، والزيغ فى العقول، والانحراف فى السلوك، والبغى فى الجماعات، والطغيان فى الحكومات، والتظالم بين الأمم والشعوب. رسالة جاءت لتزيل الوساطة المصطنعة بين الله وعباده، وتحطِّم الفوارق المفتعلة بين الناس بعضهم وبعض.

    رسالة تقول للضعفاء: شدُّوا سواعدكم. وتصيح فى الأذلاء: ارفعوا رؤوسكم. وتصرخ فى النائمين: هبُّوا من سُباتكم.

    وتنادى المستعبدين: حطِّموا قيودكم. وتدعو المستكبرين: أن انزلوا من عروش كبريائكم. وتقول للأغنياء: أنفقوا من مال الله لا من أموالكم. وتقول للحكام: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» (النساء:٥٨). وتقول للمتفاخرين بالأنساب: «. من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» (١) وتقول للمتسلطين على الضمائر من أهل الكتاب: «تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» (آل عمران:٦٤).

    ومثل هذه الرسالة الثورية الشاملة: لابد أن يكون لها خصوم معاندون، وأعداء مكابرون، منهم مَن يدافعون عن عقائدهم الموروثة: «ومنهم مَن يدافعون عن مصالحهم، وينافحون عن نفوذهم ووجودهم. فلا غرابة أن يردُّوا حقها بالقوة، ويصادروا دعوتها بالسيف، ويصدُّوا دعاتها بالجبروت والعسف.

    ولا يمكن لمثل هذه الرسالة العامة الخالدة أن تغمض العين على القذى، وتسحب الذيل على الأذى، وترضى من الغنيمة بالإياب، وتدع قيصر يعبث فى الحياة، ويأخذ سلطان الله لنفسه!! لقد آن الأوان أن يعلم الناس: أن قيصر وما لقيصر لله الواحد القهار.

    وأن الله لا يخضع لحكم قيصر، ولكن قيصر هو الذى يخضع لحُكم الله. وإذن فلابد لهذه الرسالة ودعاتها من صدام مع الطغاة والمتجبِّرين، مع القياصرة وأشباه القياصرة، مع أدعياء التألُّه فى الأرض، مع الفراعين والقوارين والهوامين فعلى المسلم أن يُعدَّ العدة، ويأخذ الأُهبَة، ويحمل سيف الحق، ومِعول التطهير، ليهدم صروح الباطل والشر، ويدكَّ عروش الظلم والطغيان، ويرسى دعائم العدل والحرية للعقائد كلها: «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» (الأنفال:٣٩).

    إن الله فضل هذه الأمة الخاتمة، فلم يجعل الخوارق الكونية أساسا فى ثبوت رسالتها، ولا فى نصرة دعوتها. ولو شاء الله لخسف بأعدائها الأرض، أو أسقط عليهم كسفا من السماء، وأراح رسوله والمؤمنين من عناء الجهاد، ولكن شاء الله أن تمضى هذه الأمة فى مسيرتها على سُنن الله المعتادة، فتكابد وتتألَّم، وتصبر وتصابر، وتبذل وتضحى، وتهاجر وتجاهد، وتنتصر وتنكسر، ويتخذ الله منها شهداء، وبهذا يتبيَّن ويتأكَّد حكمة الابتلاء الذى قام عليه أمر التكليف كله، وقام على أساسه الثواب والعقاب، وقامت سوق الجنة والنار.

    ويطرح القرضاوى سؤالا يفض الاختلاف والالتباس حول إذا ما كان الجهاد من شؤون الدين أم من شؤون الدنيا؟

    وقال يمكن صياغة السؤال بعبارة تجعل الجواب سهلا، إذا قلنا: هل هو من شؤون العبادات أو من شؤون المعاملات؟

    فمن المعلوم المتوارث: أن فقهاءنا قسَّموا الفقه الإسلامى إلى قسمين كبيرين: قسم (العبادات)، وقسم (المعاملات).

    ويعنون بالعبادات: الفرائض الدينية الشعائرية الكبرى، التى اعتبرها الحديث النبوى، واعتبرها المسلمون بعد ذلك أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وهى:الشهادتان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام.

    كما يعنون بالمعاملات: ما يتعلَّق بشؤون الحياة المختلفة، مما يتعلَّق بالفرد، مثل: الحلال والحرام، وما يتعلَّق بالأسرة، مثل: الزواج والطلاق والميراث والوصايا ونحوها، وما يتعلَّق بالمجتمع ومعاملاته المدنية والتجارية ونحوها، وما يتعلَّق بالدولة ومسؤولية الحاكم فيها، وشروطه وواجباته وحقوقه، وحقوق الأمة عليه، وواجباتها نحوه، وهو ما تنظِّمه فى عصرنا القوانين الدستورية والإدارية، وما يتعلَّق بالأمة- أمة الإسلام الكبرى- من وجوب وحدتها فى مرجعيتها ودارها وقيادتها، واحتكامها إلى الشريعة مصدرا لها. وكيف تكون علاقتها الدولية بالأمم الأخرى فى حال السلم، وفى حال الحرب.

    وهنا يدخل (الجهاد) بمعنى (القتال) والإعداد العسكرى ضمن ما يتعلَّق بالأمة والدولة، لأن مهمَّته الحفاظ على كيان الأمة المادى والمعنوى، وحراسة دينها ودنياها من عدوان المعتدين، وأطماع الطامعين. فالجهاد يتَّصل بفقه الجماعة، لا بفقه الأفراد. ولا ينتقل إلى الأفراد إلا إذا فُقدت الجماعة، ودخل العدو دارها، ولم تجد مَن يدافع عنها. فهنا يحقُّ على الأفراد أن ينظِّموا أنفسهم، وأن ينشئوا منهم جماعة تقوم مقام الإمام أو ولى الأمر الشرعى. إذ بدون ذلك لا يمكن أن يقاوموا عدوَّهم، ولا أن يحرِّروا أرضهم. وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

    وهنا ننظر للجهاد من أفق واسع، من خلال فقه (السياسة الشرعية) التى تقوم على (فقه الموازنات) بين المصالح والمفاسد بعضها وبعض، وعلى فقه (المقاصد) الذى ينظر إلى رُوح الشريعة وأهدافها الكلية، ولا يتوقَّف عند نصوصها الجزئية، وعلى (فقه المآلات) الذى ينظر إلى النتائج والآثار، حتى إنه قد يحرم بعض المباحات إذا ترتَّب عليها مفسدة محقَّقة، كامتناع الرسول الكريم عن قتل المنافقين، حتى لا يتحدَّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقد يرتكب بعض الممنوعات، لتحقيق مصلحة كبيرة، أو درء مفسدة عظيمة، كما فى خرق الخضر عليه السلام للسفينة لينقذها من اغتصاب الملك الظالم لها. . وعلى (فقه الأولويات) بحيث يضع كلَّ عمل فى مرتبته، ولا يكبِّر الصغير، ولا يهوِّن العظيم.

    واعتبارنا الجهاد من قسم المعاملات، لا يفصله تماما عن الدين، فإن الدنيا فى الإسلام ممزوجة بالدين، والدولة متَّصلة بالدعوة، والمعاملة مرتبطة بالعبادة، وليس فيه فصل مطلق بين الأمرين، كما هو فى النصرانية: أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله! فإن الإسلام لا يقبل قسمة الحياة بين الله وقيصر، ولا يقبل قسمة الإنسان شطرين: رُوحه توجِّهها الكنيسة، وجسمه وعقله توجِّههما الدولة! لا يقبل الإسلام هذه المثنوية، وهى لا تتَّفق مع حقيقة الحياة ولا حقيقة الإنسان، والعلم المعاصر ينكرها، كما أن الواقع يرفضها.
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:11

    كنا فى الحلقتين السابقتين قد بدأنا قراءتنا فى أحدث كتب الدكتور يوسف القرضاوى (فقه الجهاد) قبل طرحه فى الأسواق بيومين أو أكثر ليس فقط من قبيل أن يكون لنا قصب السبق، وإنما للأهمية البالغة لهذا الكتاب الضخم الذى نعتبره «كتاباً عمدة» فى كل مايتعلق بفكرة الجهاد، من حيث مفهومه وأهدافه ومشروعيته وأصوله الفقهية المردودة للقرآن والسنة والسلف الصالح وآراء الفقهاء والعلماء الأوائل والمحدثين .

    وتكمن أهمية الكتاب أيضاً فى أن صاحبه عالم جليل من الذين نذروا أنفسهم للعلم وأوقفوا حياتهم على الجهاد، وتتعاظم أهمية الكتاب فى كونه يعرض لصحيح الدين على نحو معتدل لامغالاة فيه ولا تطرف ولاتعصب لرأى دون الآخر إزاء القضايا ذات الصلة بالشأن الفقهى والحياتى،

    لأن ماورد فيه من طروحات تفض الالتباس والعور، كما أن هذه الطروحات جاءت حول شؤون ظلت لعقود مثار جدل واختلاف وتنازع فكرى ولم تكن بمعزل عما استجد على الأمة العربية من مخاطر ومزالق واستهدافات.

    نجمت عن ميلاد وبزوغ جماعات إسلامية متباينة ومتبنية نظرة أحادية الجانب استأثرت لنفسها بالصواب كله، والتى ظنته جهاداً منفلتاً من عقال أى ضوابط إسلامية، وقد انتحت هذه الجماعات جانباً من هموم وقيم اجتماعية وفقهية أصيلة للقرآن والسنة،

    وظلت تتعسف فى اجتزاء ما يتوافق وأهدافها من القرآن والسنة، ومما يعمق ويعمم الفائدة من الكتاب أنه يؤسس - من منظور الاعتدال- لما يسمى حوار الحضارات والأديان والثقافات ويدعو للتخلى عن الجمود فى المواقف والأفكار سواء من جانبنا أو من جانب (الآخر).

    وعلى ذلك فقد قدم القرضاوى مراجعات تاريخية وفقهية لفكر تلك الجماعات الدينية فى الداخل والخارج، التى اتخذها الآخر تكأة لوصم الإسلام بالعنف والإرهاب وعدم القبول بالآخر واعتباره عدوا طوال الوقت، غير أن القرضاوى لم يسم جماعة الإخوان المسلمين رغم ماينطبق عليها من توصيف الإسلام السياسى، كما دقق مفهوم الجهاد وضروراته ومحظوراته.

    وفى الحلقتين السابقتين أحال القرضاوى فكرة الجهاد لأصولها الفقهية، مدققاً معناها ومغزاها بين القرآن والسنة، ومواقف الراشدين مثل أبو بكر وعمر بن الخطاب وكيف تعاطى الراشدون مع فكرة الجهاد قولاً وعملاً، فضلاً عن أقوال وآراء الأئمة والأمة بين إسقاط الجهاد أو المغالاة فيه، وهى فى مواجهة عدو متربص يلتمس الرائع ويختلق التهم للإجهاز على الأمة ،

    وبالطبع لم يفت الدكتور القرضاوى أن يقدم قراءة نقدية لأفكار اثنين من أهم الكتاب والمفكرين الإسلاميين التى استمدت منهما جماعات الإسلام السياسى سياقها الفقهى والفكرى العام، وهما سيد قطب وأبو الأعلى المودودى .

    ذكر القرضاوى ثلاث فئات لكل منها رؤية مختلفة للجهاد ( فئة تعلن الحرب على العالم كله، وفئة وسطية، وثالثة تريد إخماد جزوة الجهاد كلية)، كما عرض لنماذج من الجماعات التى تبنت فكرة الجهاد على نحو متطرف، ثم قام بعضها بمراجعة أفكارة وبعضها ظل ثابتاً على مغالاته لم يبرحها، مثل تنظيم القاعدة الذى لم يراجع قناعاته منذ تأسس وإلى الآن،

    بل تمنى القرضاوى على هذا التنظيم أن يتأسى بما فعلته الجماعات الجهادية فى مصر والجزائر من مراجعات، ولأن الكتاب تقاطع مع هموم راهنة وملحة ساد فيها الالتباس والتخبط على أكثر من صعيد، ولتعميم الفائدة من كتابه، حدد القرضاوى الفئات التى يتوجه إليها بهذه الدراسة الجامعة، وهم علماء الشرع وأصحاب فكرتى حوار الثقافات والأديان والحقوقيون من المشرعين القانونيين والدستوريين والمؤرخون الإسلاميون والجماعات الإسلامية التى تأسست على فكرة الجهاد وجماعات الإسلام السياسى، والمفكرون المهتمون بالفكر الإسلامى والسياسيون وصناع القرار فى العالم.

    ودعا القرضاوى لترجمة الكتاب ليقرأه الآخر فيقف على ما للإسلام من اعتدال، ويعلم أنه براء من تهمة العنف ونبذ الآخر إجمالاً، وعدم القبول بإقامة جسور للحوار معه .

    كما دعا القرضاوى العسكريين فى الداخل والخارج، وكذلك المثقفين والمستشرقين لقراءة هذه الدراسة، ثم عرض لحقيقة ومفهوم الجهاد وحكمه شرعاً، وهل هو فرض أم تطوع، وبماذا يتحقق فرض الكفاية فى الجهاد ومتى يكون فرض عين، وكيف يتحقق أداء فرض العين فى الجهاد وتحدث عن جهاد الدفع وجهاد الطلب، فالأول – حسب قوله - مرتبط بمقاومة العدو إذا دخل أرض الإسلام واعتدى على أهلها، والثانى هو مبادرة العدو فى عقر داره لتوسيع أرض الإسلام .

    وعرض القرضاوى للجهاد إذا كان يتبع المعاملات أم العبادات والنحو الذى يأتى عليه إذا كان قتالاً، كما أن اعتباره من المعاملات لا يفصله عن الدين، وفى حلقتنا الثالثة هذه نواصل القراءة فى فقه الجهاد كما عرض له القرضاوى .

    يقول الكتاب «إن شريعة الإسلام فى شؤون العبادة تفصِّل وتحدِّد وتنظِّم، لأنها لا تتغيَّر كثيراً بتغيُّر الأزمان والبيئات والأحوال، وفى شؤون المعاملة تدع مجالاً رحباً للعقل المسلم، ليجتهد ويجدِّد ويضع الأُطر والتفصيلات حسب حاجات الزمان والمكان، وما يقتضيه تطوُّر الإنسان،

    ولهذا جاءت السياسة الشرعية فى (منطقة العفو) التى تركها المشرع الحكيم قصداً بدون نصوص ملزمة، توسعة وتيسيراً على الناس، كما أن بعض العبادات الكبرى مثل (الزكاة) هى فى الواقع من صُلب شؤون الحياة، فهى تدخل فى النظام المالى والنظام الاجتماعى فى الإسلام، ولها علاقة بالاقتصاد والسياسة، وأيضا فإن الجهاد إذا كان مشروعاً، وصحَّت فيه النية،

    والتُزمت فيه حدود الله، وأخلاقيات الإسلام يعد من أعظم ما يتعبَّد الله به، ويتقرَّب إليه، وقد اعتبره الإمام أحمد أفضل ما يتطوَّع به المسلم. ومن ثمَّ جاء فى فضله وبيان منزلته عند الله، ومقدار ما لأهله من مثوبة ما لا يكاد يحصى من آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم».

    ويضيف «لعل هذا ما جعل الشيعة الإمامية يعتبرونه من أركان الإسلام، مخالفين بذلك أهل السنة، الذين اقتصروها على الخمسة المعروفة».

    وعن حكم الجهاد شرعا هل هو فرض أم تطوع؟ وهل هو فرض أم ندب؟ وإذا كان فرضاً: فهل هو فرض عين على كل مسلم، أو هو فرض كفاية؟ وماذا عن جهاد الطلب و جهاد الدفع؟.. انطلاقا من هذه الأسئلة يعرض القرضاوى لجوانب الاتفاق والاختلاف بين آراء الفقهاء الفقهية والمنهجية المتعلقة بالجهاد، موضحاً أن الإمام أبوبكر الرازى (الجصاص) تعرض لذلك فى تفسيره (أحكام القرآن)، فحكى عن ابن شُبرُمة والثورى وآخرين:

    أن الجهاد تطوُّع وليس بفرض، (وهو يريد بالجهاد هنا: القتال، كما يريد به جهاد الطلب)، وقالوا: إن قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» ليس على الوجوب بل على الندب، كقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» (البقرة:١٨٠)،

    وقال أبوحنيفة وأبويوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار: «إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة، إلا أنه فرض على الكفاية، إذا قام به بعضهم كان الباقون فى سَعة من تركه».

    وقد ذكر أبوعُبيد أن سفيان الثورى كان يقول: ليس بفرض، ولكن لا يسع الناس أن يُجمعوا على تركه، ويجزئ فيه بعضهم على بعض، فإن كان هذا قول سفيان، فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية، ومن الواضح أن هذا كلَّه فى جهاد الطلب والتوسُّع فى أرض الأعداء،

    وليس فى جهاد الدفع والمقاومة للغزاة.وما أورده الجصَّاص عن ابن شُبرمة ومَن وافقه من تأويل قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» (البقرة:٢١٦)، أنه على الندب، وليس على الوجوب: خلاف الظاهر والمتبادر من اللفظ، كما فى قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» (البقرة:١٨٣): أى: فرض عليكم .

    وقال القرضاوى: «إن الجصاص فرِّق بين حالة الأمن وحالة الخوف، أو (جهاد الطلب وجهاد الدفع)، حيث قال بالنص «معلوم فى اعتقاد جميع المسلمين: أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة لهم، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافة الأمة أن ينفِر إليهم مَن يَكُفُّ عاديتهم عن المسلمين.

    وهذا لا خلاف فيه بين الأمة، إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين، وسبى ذراريهم». ولكن موضع الخلاف بينهم: أنه متى كان بإزاء العدو مقاومون له، ولا يخافون غلبة العدو عليهم: هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية؟ فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شُبرُمة: إنه جائز للإمام والمسلمين ألا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم.

    لكن الجمهور كما ذكر القرضاوى يفرض جهاد الطلب فرض كفاية: وقال آخرون: على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا، حتى يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية، وهو مذهب أصحابنا ومَن ذكرنا من السلف: المِقداد بن الأسود وأبى طلحة وآخرين من الصحابة والتابعين.

    وقال حذيفة بن اليَمَان: الإسلام ثمانية أسهم، وذكر الجهاد كسهم منها، وحدثنا جعفر قائلاً: «حدثنا أبوعُبيد، حدثنا عبدالله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث أو غيره، عن ابن شهاب (الزُّهْرى) قال: كتب الله الجهاد على الناس، غزوا أو قعدوا، فمَن قعد فهو عُدَّة:إن استعين به أعان، وإن استُنفِر نفر، وإن استغنى عنه قعد.

    وهذا مثل قول مَن يراه فرضا على الكفاية. وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار، فى أن الجهاد ليس بفرض، يعنون به أنه ليس فرضه متعيِّنا على كل أحد كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية وينبه القرضاوى إلى ما يتعين التنويه له من أهمية هذه الأقوال المهمة التى ذكرها الإمام الجصاص عن عدد من فقهاء الأمة، فيهم من الصحابة مثل: ابن عمر،

    ومن التابعين مثل: عطاء وعمرو بن دينار، ومن الأئمة مثل: الثورى وابن شُبرُمة: أنه ليس واجبا على المسلمين: أن يغزوا الكفار إذا كانوا آمنين على أنفسهم منهم، إنما يجب الجهاد فى حالة الخوف من شرهم وعدوانهم على المسلمين. فيما يرى أبوجعفر النحاس فى كتابه (الناسخ والمنسوخ) لهذه الآية الكريمة: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» (البقرة:٢١٦)، وذكر ما ورد فيها عن السلف من أقوال، ثم ناقشها قولا قولا.

    ومنها ما قاله قوم أن هذه الآية ناسخة لحظر القتال عليهم، ولِمَا أمروا به من الصفح والعفو بمكة. وقال قوم: هى منسوخة: وكذا قالوا فى قوله عز وجل: «انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً» (التوبة:٤١)، والناسخة: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ» (التوبة:١٢٢). وقال قوم: هى على الندب لا على الوجوب. وقال قوم: هى واجبة، والجهاد فرض.

    وقال عطاء: هى فرض إلا أنها على غيرنا. يعنى أن الذى خوطب بها الصحابة. وقال أبوجعفر: فهذه خمسة أقوال: فأما القول الأول: وهو أنها ناسخة، فبيِّن صحيح وأما قول مَن قال: إنها منسوخة، فلا يصح، لأنه ليس فى قوله عز وجل: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» (التوبة:١٢٢). نسخ لفرض القتال. وأما قول مَن قال: هى على الندب، فغير صحيح، لأن الأمر إذا وقع بشىء لم يُحمل على غير الواجب، إلا بتوقيف من الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو بدليل قاطع.

    وأما قول عطاء: إنها فرض، ولكن فرض على الصحابة، فقول مرغوب عنه، وقد ردَّه العلماء، حتى قال الشافعى رحمه الله فى إلزامه: مَن قال: «وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» (النساء:١٠٢)، إن هذا للنبى صلى الله عليه وسلم خاصة، ولا تُصلَّى صلاة الخوف بعده، فعارضه بقوله عزَّ وجلَّ: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة:١٠٣).

    فقول عطاء أسهل ردًّا من قول مَن قال: هى على الندب، لأن الذى قال هى على الندب قال: هى مثل قوله عزَّ وجلَّ: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» (البقرة:١٨٠) .

    قال أبوجعفر: وهذا ليس على الندب، وقد بيناه فيما تقدم. وأما قول مَن قال: إن الجهاد فرض بالآية، فقوله صحيح، وهو قول حذيفة، وعبدالله بن عمرو (٨)، وقول الفقهاء الذين تدور عليهم الفتيا، إلا أنه فرض يحمله بعض الناس عن بعض، فإن احتيج إلى الجماعة نفروا فرضا واجبا، لأن نظير: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» (البقرة:٢١٦)، «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ» (البقرة:١٨٣).

    قال حذيفة: الإسلام ثمانية أسهم؛ الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصيام سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهى عن المنكر سهم. ونظير الجهاد فى أنه فرض يقوم به بعض المسلمين عن بعض: الصلاة على المسلمين إذا ماتوا ومواراتهم، قال أبوعُبيد: وعيادة المريض، ورد السلام، وتشميت العاطس. وأما قول مَن قال: الجهاد نافلة، فيحتجُّ بأشياء، وهو قول ابن عمر وابن شُبرُمة والثورى.

    ومن حجتهم: قول النبى صلى الله عليه وسلم، رواه ابن عمر: «بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والصلاة، والصيام، والزكاة، وحج البيت».

    قال أبوجعفر: وهذا لا حُجَّة فيه، لأنه قد رُوى عن ابن عمر أنه قال: استنبطتُ هذا - ولم يرفعه - ولو كان رَفْعُه صحيحا لَمَا كانت أيضا فيه حُجَّة، لأنه يجوز أن يترك ذكر الجهاد ههنا، لأنه مذكور فى القرآن، أو لأن بعض الناس يحمله عن بعض، فقد صحَّ فرض الجهاد بنص القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتراض أبى جعفر على حديث ابن عمر بأنه قال: استنبطتُ هذا ولم يرفعه: مردود بأن الحديث متفق عليه، ومشهور برفعه عن ابن عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مما يحفظه خواصُّ المسلمين وعوامُّهم. وكذلك رواه الإمام أحمد فى مسنده مرفوعا عن جَرير بن عبدالله.

    وقد روى ابن أبى شيبة بسنده عن يزيد بن بِشر السَّكْسَكى، قال: قدمت المدينة، فدخلت على عبدالله بن عمر، فأتاه رجل من العراق، فقال: يا عبدالله بن عمر! ما لك تحج وتعتمر، وقد تركت الغزو فى سبيل الله؟! قال: ويلك! إن الإيمان بُنى على خمس: تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج، وتصوم رمضان. كذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم الجهاد حسن ويقول القرضاوى: «لعل مما يؤكد قول ابن عمر:

    أن الله تعالى ذكر صفات المتقين فى أول سورة البقرة، وصفات المؤمنين فى أول سورة الأنفال، وأول سورة المؤمنين، وصفات أولى الألباب فى سورة الرعد. وذكر صفات عباد الرحمن فى أواخر الفرقان، وذكر صفات المحسنين فى سورة الذاريات، وصفات الأبرار فى سورة الإنسان، ولم يذكر (الجهاد) ضمن خصالهم وأوصافهم. وهذا - فى رأيى - يدلُّ على أنه ليس بواجب على المكلَّفين فى كل حال، كالصفات المذكورة لهؤلاء. إنما هو واجب بوجوب أسبابه كردِّ عدوان المعتدين،
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 30 يونيو - 21:12

    ودرء الفتنة فى الدين عن المؤمنين، وإنقاذ المستضعفين، وكالخوف من هجوم الأعداء المتربصين، وإذا وجب الجهاد بسبب من الأسباب ينوب فيه بعض الناس عن بعض. وقد رأى ابن المبارك: الجهاد فرض فى عهد النبوة، وروى مسلم فى كتاب الإمارة من صحيحه، من طريق عبد الله بن المبارك، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من النفاق». ص٦٩

    قال ابن سَهم (الراوى عن ابن المبارك): قال عبد الله بن المبارك: فنرى ذلك كان على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال النووى: وهذا الذى قاله ابن المبارك محتمَل. وقد قال غيره: إنه عام. والمراد: أن مَن فعل هذا فقد أشبه المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد فى هذا الوصف. ومن هنا قال بعض العلماء: إن الجهاد كان واجبا على الصحابة لا على من بعدهم. كما نقله أبو جعفر النحاس عن عطاء.

    على أن هنا قيد مهم فى الحديث، فالوعيد ليس على مجرَّد ترك الغزو، بل ضمَّ إليه أمرا آخر، وهو أنه: «لم يحدِّث به نفسه»: أى لم يخطر على باله، ولم يدُر يوما فى فكره. وهذا أخصُّ من مجرَّد الترك. والمطلوب من المسلم إذا لم يجاهد بنفسه: ألا يغيب أمر الجهاد عن فكره وخاطره.

    وفى اختلاف العلماء فى الجهاد بين الوجوب والندب أورد القرضاوى رأى الجصاص فى آية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}:

    وتعرَّض الإمام الجصاص فى (أحكام القرآن) لبيان معنى الآية الكريمة، وهى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦] قال: (هذا يدلُّ على فرض القتال؛ لأن قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}: بمعنى فُرض عليكم، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٨٣].

    ثم لا يخلو القتال المذكور فى الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرَفه المخاطبون، أو لم يرجع إلى معهود؛ لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود، فإن كان المراد قتالا قد عرَفوه رجع الكلام إليه نحو قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:٣٦]، وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:١٩١]، فإن كان كذلك فإنما هو أمر بقتال على وصف، وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا.

    فيكون حينئذ كلاما مبنيا على معهود، قد عُلم حكمه، مكررا ذكره تأكيدا. وإن لم يكن راجعا إلى معهود، فهو لا محالة مجمل مفتقر إلى البيان، وذلك أنه معلوم عند وروده: أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم، فلا يصحُّ اعتقاد العموم فيه، وما لا يصحُّ اعتقاد العموم فيه، فهو مجمل مفتقر إلى البيان، وبيّن القرضاوى أوجه الاختلاف بين أهل العلم فى فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:٥].

    وخلاصة كلام العلاَّمة الجصاص: أن القتال الذى كُتب على الأمة وفُرض عليها: قد بُيِّن فى آيات سابقة، وهو قتال مَن يقاتلونها، كما بيَّنت السورة. بناء على أن {الْـ} فى {الْقِتَالُ} للعهد، فإن لم تكن {الْـ} للعهد، وكانت للجنس، فالنصُّ هنا (مجمل) يفتقر إلى (البيان)؛ لأن الله تعالى لم يأمرنا بقتال الناس كلِّهم، فلا يصحُّ اعتقاد العموم فيه. وما كان كذلك، فلا يؤخذ منه حكم عامٌّ بفرضية القتال على المسلمين كافَّة، بل يفتقر إلى دليل آخر يبيِّن الإجمال الذى فيه. وأن الجهاد على اختلاف صور تناوله الفقهى ورد لدى الحافظ ابن حجر للآراء فى الجهاد ويقول القرضاوى:

    أورد هنا ما لخَّصه الحافظ ابن حجر من قول الفقهاء عن حكم الجهاد، فإن بعض الكتَّاب فى عصرنا يتحدثون عن هذه الموضوعات التى اختلف فيها المتقدمون، بما انتهى إليه بعض العلماء المتأخرين، ويوهمون القارئ كأن الأمر متفق عليه، ولا كلام فيه. وفى هذا تدليس على القارئ غير المطلع، وتضليل له عن الحقيقة.

    فقد رأينا من خيار الصحابة والتابعين مَن قال: إن الجهاد مطلوب على الندب، وليس على الوجوب. ومَن قال: هو واجب على الصحابة وليس على من بعدهم. كما قال عطاء وابن المبارك. وهناك مَن قال: هو واجب فى حالة الخوف لا فى غيرها ورأينا الإمام الجصاص يقول: إن القتال الذى فُرض علينا فى الآية هو قتال مَن يقاتلوننا، وهو القتال المذكور فى سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [آية:١٩٠].

    وذكر الحافظ ابن حجر فى (الفتح) فى شرح ما ذكره البخارى فى (باب وجوب النفير، وما يجب من الجهاد والنية وبيان القدر الواجب من الجهاد ومشروعية النية فى ذلك، قال: وللناس فى الجهاد حالان: إحداهما فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم. والأخرى بعده.

    فأما الأولى: فأول ما شُرع الجهاد: بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا. ثم بعد أن شُرع: هل كان فرض عين أم كفاية؟ قولان مشهوران للعلماء، وهما فى مذهب الشافعى.

    وقال الماوردى: كان عينا على المهاجرين دون غيرهم. ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح فى حق كل مَن أسلم إلى المدينة لنصر الإسلام.

    وقال السُّهيلى: كان عينا على الأنصار دون غيرهم. وتؤيده مبايعتهم للنبى صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة على أن يؤووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصروه، فيُخرَّج من قولهما: أنه كان عينا على الطائفتين، كفاية فى حق غيرهم. ومع ذلك فليس فى حق الطائفتين على التعميم، بل فى حق الأنصار إذا طرق المدينةَ طارق، وفى حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء. ويؤيد هذا ما وقع فى قصة بدر فيما ذكره ابن إسحاق، فإنه كالصريح فى ذلك.

    وقيل: كان عينا فى الغزوة التى يخرج فيها النبى، صلى الله عليه وسلم، دون غيرها. والتحقيق: أنه كان عينا على مَن عيَّنه النبى، صلى الله عليه وسلم، فى حقه ولو لم يخرج.

    الحال الثانية: بعده صلى الله عليه وسلم، فهو فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه، كأن يدهم العدو، ويتعيَّن على مَن عينه الإمام، ويتأدَّى فرض الكفاية بفعله بالسنة مرة عند الجمهور، ومن حجتهم: أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب فى السنة أكثر من مرة اتفاقا، فليكن مُبدَلها كذلك.

    والتحقيق أيضا: أن جنس جهاد الكفار متعيِّن على كل مسلم: إما بيده، وإما بلسانه، وإما بماله، وإما بقلبه، والله أعلم) وقال الإمام ابن القيم:(والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.

    أما الجهاد بالنفس، ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال، ففى وجوبه قولان، والصحيح وجوبه؛ لأن الأمر بالجهاد به (أى بالمال) وبالنفس فى القرآن سواء، كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:٤١].

    وعلَّق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة به أيضا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف:١٠-١٢].

    وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك، أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:١٣]، أى: ولكم خَصْلة أخرى تحبونها فى الجهاد، وهى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:١٣]، وأخبر سبحانه أنه: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]،

    وأعاضهم عليها الجنة، وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء، وهى التوراة والإنجيل والقرآن، ثم أكَّد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى، ثم أكَّد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذى عاقدوه عليه، ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم)، وعن حكم الجهاد عند جمهور الفقهاء:

    فإن الجهاد فرض كفاية، وإن ذهب بعضهم إلى أنه فرض عين. كما رُوى عن بعض السلف: أنه من باب التطوع لا الفرض. قال الخِرَقى فى مختصره: (والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم، سقط عن الباقين) وشرحه الإمام ابن قدامة فى (المغنى) فقال:(معنى فرض الكفاية: الذى إن لم يقُم به مَن يكفى، أثم الناس كلهم،

    وإن قام به مَن يكفى، سقط عن سائر الناس. فالخطاب فى ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان فى أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره، والجهاد من فروض الكفايات، فى قول عامة أهل العلم.

    وحُكِى عن سعيد بن المسيّب: أنه من فروض الأعيان، (كما رُوى عن أبى طلحة الأنصارى وأبى أيوب والمقداد بن الأسود من الصحابة رضى الله عنهم)؛ لقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٤١]، ثم قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:٣٩]، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:٢١٦]. وروى أبو هريرة رضى الله عنه: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «مَن مات ولم يغزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق». رواه أبو داود . ص٧٤.

    وردَّ ابن قدامة على هذا القول بقول الله تعالى: {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:٩٥].

    وهذا يدلُّ على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم. وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ} [التوبة:١٢٢]. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه. فأما الآية التى احتجوا بها:

    {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:٤١]، فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، ويحتمل أنه أراد: حين استنفرهم النبى صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وكانت إجابته إلى ذلك واجبة عليهم، ولذلك هجر النبى، صلى الله عليه وسلم، كعب بن مالك وأصحابه الذين خُلِّفوا، حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على مَن استنفره الإمام؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إذا استنفرتم فانفروا».

    وما قاله الإمام ابن قدامة هو الصحيح، فإن الآية التى استدلُّوا بها جاءت فى سياق استنفار رسول الله لهم، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ...} الآية [التوبة::٣٨]، وعند استنفار الإمام لفرد أو جماعة يصبح الجهاد فرض عين عليهم بالإجماع.
    love for ever
    love for ever
    الزعيمة
    الزعيمة


    عدد المساهمات : 2621
    رقم العضوية : 37
    تاريخ التسجيل : 08/07/2008
    نقاط التميز : 3166
    معدل تقييم الاداء : 81
    من مواضيعي : موضوع نقاش وبحث
    الخطأ؟؟؟؟؟
    ماذا يحدث حولنا؟؟؟؟
    صغيران اسفل العينين
    مصر الاولى على العالم
    اقوال مأثوره
    معلومات ع الماشي
    معلومات في الطب


    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف love for ever الجمعة 3 يوليو - 8:43

    متابعها في المصري اليوم
    في شئ بقى وهو ان الجهاد كفريضه بيختلف باختلاف المواقف التي تمر بها الامه يعني مثلا
    اذا وجد هناك اعتداء على دوله مسلمه يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم قادر عليه والتبعيه لللأقرب يعني مصر اقرب البلدان لفلسطين مثلا ؟؟؟؟؟
    اما ان لم يكن هناك اعتداء فسوف نطبق ماقاله الشيخ ويصبح فرد كفايه ويكون في تأمين حدود البلد مثلا كما ذكر
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الإثنين 20 يوليو - 4:55

    اعتقد ان العرض يجب ان يقراء كاملا
    وقد اخطائت في عرضة مجزئا
    الرجاء من الادارة دمج المواضيع الثلاثة حتي يمكن قرائتهم كوحدة واحدة
    واشكر لك متابعتك

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عادل الثلاثاء 11 أغسطس - 3:37

    تم الدمج
    واشكرك بشدة علي هذا الموضوع
    avatar
    عبد العليم
    عضو مشارك
    عضو مشارك


    عدد المساهمات : 54
    رقم العضوية : 313
    تاريخ التسجيل : 20/05/2009
    نقاط التميز : 84
    معدل تقييم الاداء : 6

    «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3) Empty رد: «فقه الجهاد.. دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة»لـ «القرضاوى»: (3)

    مُساهمة من طرف عبد العليم الثلاثاء 27 أكتوبر - 9:26

    شكرا عادل

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين 6 مايو - 5:31