الحسين بن منصور الحلاج.. شهيد الحب الالهي

عاش الحلاج خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري و9 سنوات من القرن الرابع.. قصد شهد انحلال وانقسام الدولة العباسية وبزوغ القومية الفارسية استيقاظها بعد أن واثق بالإسلام - وشاعت الاضطرابات السياسية والمذهبية تنخر في أوصال نظام الحكم العباسي السني - وظهر علي السطح المناوئون للمذهب السني والخارجون عليه وظهرت الإسماعيلية والنصيرية والباطنية.. وساد الفساد والفرقة..

وساعد علي هذا الثراء الفاحش للطبقة الحاكمة وأعوانها في مواجهة فقر مدقع للغالبية العظمي من الناس وزيادة الضرائب والجباية والرسوم المفروضة علي التجار والعامة.. وانتشرت نزعة التصوف والزهد وإقناع النفس بالتقشف وانتشرت الخرافات وأحلام الثراء الوهمية والتنجيم والاعتقاد في السحر والكشف عن الغيب وما صاحب ذلك من دجل وشعوذة.

ولم يكن الحلاج بعيداً عن هذا المناخ المتقلب بل إن البعض وضعوه في صورة البطل الثائر.. وإن كان البعض قد وضعه في صورة الدرويش الغائب عن الواقع.. أو المعتوه الذي يطوف بالأسواق مردداً ألفاظ وصيحات غير مفهومة.

إنه الحسين بن منصور الحلاج شهيد الصوفية الذي اختلف فيه الناس قبل مماته وبعد مماته.. رجل يسعي إلي الموت كما يسعي إلي لقاء المحب والحبيب.

كان قد ابتدأحالة إظهار زهد وتصوف وبعض كرامات ويخبر الناس بما فعلوا ويتكلم في ضمائرهم.. فافتتنوا به.. وأولوه مكان العارف والولي.

وانتشرت عنه الأساطير والمعجزات والخرافات بما أحاط بها من مبالغات تروي ظمأ البسطاء في مواجهة عجز القادة والخليفة والأمراء وحاولوا الحصول منه علي ما يفيد ادعاءه الربوبية أو النبوه ولكنه استنكر هذه الأقوال وقال إنه رجل يعبد الله عز وجل.

واستحضر الخليفة ووزيره مجموعة من الفقهاء والشهود فأفتوا بأنه لا يفتي في أمره بشيء إلا أن يصح ما يوجب قتله.. وكانوا يناظرونه لا يظهر منه ما يخالف الشريعة إلي أن وقع في أيديهم كتاب لخوارج تمكنه لرحلة إلي الحج نسبها الحلاج إلي حسن البصري.. وأوصوا بإباحة دمه.

ودافع الحلاج عن نفسه رافضاً أن يحل دمه لاعتقاده في الإسلام والمذهب السني.. وصدق الخليفة علي قتله ثم سلمه إلي الشرطة وضرب ألف سوط فما تأوه وقطعت أوصاله واحرقت بالنار حتي إذا ما صارت رماداً ألقي بها في دجلة.

وإذا كانت للحلاج شطحات استعصت علي فهم معاهديه مثل قوله «ما في الجبة إلا الله.. أو ما قيل بشأنه:

أنا من أهوي ومن أهوي أنا

نحن روحان حللنا بدنا

وإذا ما دققت النظر والتأمل في بعض الأقوال التي أدين بها الحلاج ستجد أنها نفس الكلمات التي تحمل الأدلة علي تمسكه بالتوحيد.

كانت رحلة الحلاج شاقة ومجهدة وكان يجاهد فيها نفسه أكثر ما تكون المجاهدة.. وأضحي قلبه خالياً إلا من الله ومن ذكره.. وتعبيره التعبير الصادق عن الحالة التي لم يعد فيها هو هو.. ولم يعد فيها لا.. هو.. في هذه الحالة لم يعد ثمة وجود للحلاج.. كما أنه لم يتحد بعد بالحبيب

وقال يوماً أمام جمع غفير من الناس..

أيها الناس.. أغيثوني من الله.. فإنه اختطفني مني.. ولن يردني عليَّ ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة.. وأخاف الهجران فأكون غائباً محروماً والويل لمن يغيب بعد الحضور.. ويهجر بعد الوصول..

لقد فعل الحلاج ما نصح به غيره.. ترك الدنيا لأهلها.. ولم يرض أن تكون الآخرة شغله الشاغل.. إنه طمح من بداية حياته لا في الدار الآخرة. بل في صاحب الدار.. وينطق..

أنا الحق والحق للحق حق.. لا بس ذاته فما ثم فوق

ويقول يا إله ويا رب الأرباب .. ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم

رد إليَّ نفسي لئلا يفتتن بي عبادك.. يا هو أنا.. وأنا هو

لا فرق بين أنيتي وهويتك.. إلا الحدث والقدم..

ويقول:

مزجت روحك في روحي .. كما تمزج الخمرة في الماء الزلال فإذا مسك شيء مسني .. فإذا أنت أنا في كل حال وكانت الفترة التي سبقت إعدام الحلاج فترة شطح وهذيان سوف تعجل بإهدار دمه.. وأقرب ما تكون إلي تحريض للناس أن يقتلوه ويريحوه من العذاب الذي يكوي ضلوعه.. ويردد بصوت عال صياحه في جامع المنصور

اعلموا أن الله تعالي أباح لكم دمي فاقتلوني..

اقتلوني تؤجروا واسترح..

اقتلوني تكونوا أنتم مجاهدين وأنا شهيد

لقد أعدم الحلاج وبقي ذكره شهيداً وعارفاً وسؤالاً ولغزاً.. أما قاتلوه.. فإذا بحثت في زوايا النسيان.. فلن يوجدوا ولن تجد أياً منهم.

فاروق عبد الخالق