الحسن البصري ..إمام أهل العصر وسيد التابعين

ولد الحسن البصري لأبوين من موالي العرب سنة 21 هـ وكانت أمة مولاة «لأم سلمة» زوج النبي - صلي الله عليه وسلم - التي كانت تحبه وتحنو عليه حتي إنها ربته في حجرها وأرضعته من ثديها فعادت عليه بركة النبوة فتكلم بالحكمة.

وقضي طفولته بالمدينة المنورة وكان يمضي معظم وقته بالمسجد النبوي الشريف، مما أتاح له أن ينهل العلم من كبار الصحابة ويستمع منهم ويتأسي بأخلاقهم.




وقد أكرمه الله فحفظ القرآن الكريم بأكمله في سن الثانية عشرة من عمره، ورحل في صباه إلي البصرة مع أسرته والتقي هناك بكبار الصحابة والتابعين وأخذ عنهم الكثير إلي أن نبغ وأصبح عالمًا من علماء البصرة.. وله درس يومي بمسجد البصرة وكذا بمنزله الذي علي قدر بساطته كان مجلسًا لخاصة تلاميذه ومريديه.

وعينه عمر بن عبدالعزيز معلنًا «لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين» ولا غرابة في ذلك إذ أن أنس بن مالك حين سئل في مسألة ما قال «سلو الحسن» ولما استغرب السامع لذلك أعاد أنس بن مالك قوله مكملاً «سلو مولانا الحسن البصري سمع وسمعنا فحفظ ونسينا وإني لأغبط به أهل البصرة».

وكانت نصيحته للناس «أني مزودكم بثلاث، أولها: ما نهيتم عنه من أمر فكونوا من أترك الناس له، ثانيها: وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، ثالثها: اعلموا أن خطاكم خطوتان.. خطوة لكم وخطوة عليكم، فانظروا أين تعذون وأين تروحون».

وقال عنه أبوحيان التوحيدي: «كان البصري من دراري النجوم علمًا وتقوي وزهدًا وورعًا.. وعفة ورقة.. وفقهًا ومعرفة.. وفصاحة ونصاحة.. مواعظه تصل القلوب.. وألفاظه تلتبس بالعقول.. وما أعرف له ثانيًا لا قريبًا ولا مدانيًا بنظره وفق مخبره وعلانيته في وزن سريرته..

وكان الحسن البصري وضيئًا جميلاً.. بهيًا.. مهيبًا.. وكان من أفصح العرب وأكثرهم حكمة..

وكان يذكر كثيرًا حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - «يأتي علي الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بركوب المعصية.. فإذا كان ذلك الزمان قبح التزويج وحلت العزوبة».

وكان عفيفًا لا يطلب من الناس شيئًا مستغنيًا بالله عن الناس وسمي زاهد المتقين.. وكان يبدو دائمًا بكاء حزينًا يتذكر الموت دائمًا لكي يحثه علي طاعة الله والخوف منه..

ومن كان مثله من العلماء فهم من يصدق فيهم قول «إنهم لا يخشون في الله لومة لائم».

وقصته مع الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق الذي يضرب به المثل في الظلم والجور وجمع من الخلال والصفات أقبحها من قساوة قلب وشراسة أخلاق وغلظ طبع وقلة الدين وسفك وقتل في مدة ولايته عشرات آلاف المسلمين ومات في سجونه ثمانية عشر ألف إنسان، وكأنه ضرب بينه وبين الرحمة والرأفة بسور من فظاظة وغلاظة وقسوة، إلا أن الحجاج كان يستأنس بحضور مجلس الحسن البصري وسماع درسه أحيانًا ويجلس إلي جواره ويستحسن ما يقوله ويربت علي كتفيه استحسانًا.. بل ووصف الحجاج يومًا الحسن البصري.. بأنه أخطب الناس ومع ذلك لم تمنع كل هذه السيرة الوحشية الكريهة أو ترهب الحسن البصري أن يظهر للناس من خلال العديد من خطبه ظلم الحجاج.

ومن هذه المواقف أن الحجاج بني دارًا ودعا الحسن البصري أن يراها.. فلما دخلها وجدها قصرًا منيفًا فاخرًا فقال: «الحمد لله أن هؤلاء الملوك ليرون في أنفسهم عزًا وإنا لنري فيهم عبرًا.. يعمد أحدهم إلي قصر فيشيده.. وإلي فرش فيتخذه وقد حف به ذباب طمع.. وفراش نار.. ثم يقول: ألا انظروا ما صنعت «فقد رأينا يا عدو الله ما صنعت» فماذا يا أفسق الفسقة.. ويا أفجر الفجرة أما أهل السماء فلعنوك.. وأما أهل الأرض فمقتوك.. ثم خرج وهو يقول «إنما أخذ الله الميثاق علي العلماء، ليبيينه للناس ولا يكتمونه».

فاغتاظ الحجاج غيظًا شديدًا ووبخ الناس ووجه إليهم اللوم والتخويف والتهديد إذا سمحوا للبصري أن يشتمه ولم يتصد له أحد وأمر باستقدامه وأقسم أن يقتله.

وذهبوا إلي البصري وأخبروه بمطلب الحجاج وذهبوا به إليه فكان الحسن البصري يتمتم بشفتيه بما لا يسمع.

فلما دخل علي الحجاج رأي السيف والنطع بين يديه وهو يزمجر ويزبد ويرعد من الغيظ وأغلظ في القول للبصري، إلا أن الحسن كان يمتص غضب حديثه برد حسن ولم يزل به وسط دهشة واستغراب الحاضرين إلي إن هدأ الحجاج وتركه ينصرف وكان ذلك غريبًا وغير مسبوق في سلوك الحجاج.. وكأنما غشيت عيني الحجاج وعقله.

وبعدما خرج الحجاج استفسر منه الناس مستغربين مما حدث فقال عندما دخلت عليه كان لساني يلهج بذكر الله واستعدادي للقائه ودعائي أني لا أخشي سيف الحجاج ولا تنكيله ولا سجنه فقد نطقت بكلمة الحق وما يتوجب علي مصداقًا لقوله تعالي وآياته فكفاني الله شره.. بحمده وعفوه وكرمه.. والحمد لله أرحم الراحمين.

رحم الله فقيهنا البصري ونفعنا بعلمة وجزاك الله خير الجزاء

اللهم امين